الموت في كل خطوة.. ألغام اليمن تستهدف النساء

الموت في كل خطوة.. ألغام اليمن تستهدف النساء

في ظلال عالم تمزقه الصراعات يقف اليمن شاهدا على أفظع التداعيات الإنسانية للحروب، فبينما تتصاعد وتيرة العنف وتتوسع رقعة الاقتتال، يبرز خطر صامت وخفي يتربص بحياة المدنيين الأبرياء في كل زاوية؛ الألغام الأرضية ومخلفات الحرب القابلة للانفجار. 

هذه القنابل المنسية، التي غالباً ما تُزرع بعشوائية في المناطق السكنية والطرقات الزراعية ومصادر المياه، تحصد أرواح الأبرياء وتُغير مسار حياة الناجين إلى الأبد، تاركة خلفها ندوباً جسدية ونفسية عميقة تتوارثها الأجيال.

وعلى رأس هؤلاء الأبرياء، الأطفال والنساء في المناطق الريفية هم الأكثر عرضة لهذه القنابل الصامتة التي تُزرع بعشوائية في محيط حياتهم اليومية.. في الحقول التي يرتزقون منها، وعلى الطرقات التي يسلكونها لجلب الماء أو الرعاية الصحية، وحتى بالقرب من منازلهم المتواضعة، حيث تحصد هذه الألغام الأرواح وتُغير مسار حياة الناجين إلى الأبد، تاركة خلفها ندوباً جسدية ونفسية عميقة تتوارثها الأجيال، وتزيد من حدة التحديات التي تواجهها المجتمعات الريفية الهشة.

دعاء.. حلم مبتور

قصة دعاء، الشابة ذات الـ24 عاماً من محافظة الحديدة، ليست مُجرد حكاية فردية، بل هي صرخة مدوية تجسد هذا الواقع المرير الذي يواجهه اليمنيون يومياً. أم لطفل في الثالثة من عمره وطالبة جامعية كانت على أعتاب تحقيق حلمها بأن تضيء دروب المعرفة للأجيال القادمة كمُعلمة، وجدت نفسها في لحظة واحدة تتحول فيها حياتها الهادئة إلى كابوس لا ينتهي، بسبب لُغم أرضي كان قد زُرع في طريقها بحثاً عن قوت يومها.

"حلمي بسيط.. أن أقف في الصف وأشرح، وأرى بريق الفهم في عيون طلابي".. بهذه الكلمات البسيطة والعميقة، تختزل دعاء شغفها الذي لم يكتمل بعد. حياتها، كالكثير من اليمنيين، كانت مزيجاً من التحديات اليومية.. صعوبة الحصول على الماء النظيف، انقطاع التيار الكهربائي المتكرر، وشح فرص العمل لزوجها الذي يكافح لإعالة أسرته، لكن إصرارها على إكمال دراستها في كلية التربية كان الوقود الذي يُبقي شعلة الأمل متوهجة في قلبها.

كل صباح، كانت دعاء تستقبل يومها بروح الأم والمُعيلة والطالبة؛ تُعدّ فطوراً بسيطاً لعائلتها الصغيرة، تُلبس ابنها عمر ثيابه، وتتوجه إلى جامعتها، حاملة معها كتبها وأحلامها، وبعد انتهاء يومها الدراسي، كانت تعود إلى مساعدة والدتها في أرضهما الزراعية، حيث تجد في تراب الوطن مصدر رزق وسكينة، وتستمد منه قوة لمواجهة الغد، "كنا نعيش بالكد والتعب، لكن ما كنا نشتكي".

ذلك اليوم المشؤوم.. سيظل محفوراً في ذاكرة دعاء كعلامة فارقة بين الأمس واليوم، بين الحلم والواقع المرير.. خرجت في ذلك الصباح قاصدة المزرعة لجلب بعض الخضروات الطازجة لإعداد وجبة الغداء لعائلتها، تاركة طفلها الصغير في أمان جدته.. سلكت طريقاً ألفته قدميها على مر السنين، طريقاً لم يحمل أي إشارة تحذير تُنذر بالخطر المتربص تحت التراب، "الطريق الذي مشيت فيه دائماً نمشيه.. لم يكن هناك أي تحذير".

خطوات هادئة تحمل سلة فارغة.. خطوة، ثم أخرى.. وفجأة، اهتزت الأرض بعنف تحت قدميها، ودوى انفجار هائل مزق سكون الصباح، التراب والرمل تصاعد ليغطي وجهها، ورائحة البارود الكريهة خنقت أنفاسها، للحظات، فقدت الوعي، لتستفيق على ألم مُبرح وإدراك مرعب بأن جزءاً من جسدها قد فُقد للأبد، "حاولت ألمس رجلي.. لم أعد أشعر بها، كأن جزءاً مني قد انفصل".

تجمعت الناس المذعورة على صوت الانفجار، أصوات الصراخ والعويل تعلو في المكان.. الأم المكلومة كانت تصرخ باسم ابنتها، والوجوه الشاحبة تعكس هول المشهد، نُقلت دعاء على عجل، ملفوفة ببطانية ملطخة بالدماء، في سيارة غير مجهزة، نحو أقرب مستشفى يعاني هو الآخر من نقص حاد في الإمكانيات والموارد الطبية، "وصلت المستشفى، والدم في كل مكان.. لا إسعاف، لا تجهيزات".

القرار الطبي لم يترك مجالاً للتردد أو التفكير.. بترت الساق اليسرى.. "قالوا: يجب أن تُقطع رجلكِ".. كلمات قليلة تحمل في طياتها معنى الفقد الأبدي، وفقدان جزء عزيز من الجسد والروح. 

تتابع أنها في تلك اللحظات الصعبة جمعت قواها في صمت مؤلم، تستوعب هول ما حدث لحياتها وحلمها.. "لم أبكِ، لم أتكلم.. الوجع كان أعمق من الجسد".

العودة إلى المنزل كانت بداية فصل جديد من المعاناة، الغرفة الضيقة التي كانت تحتضن أحلامها بدت الآن أصغر وأكثر قيداً، والسلالم التي كانت تصعدها بخفة تحولت إلى عائق لا يمكن تجاوزه.. الكرسي المتحرك الذي أصبح رفيقها الجديد لم يكن سهل الاستخدام في بيت بسيط وغير مهيأ لذوي الاحتياجات الخاصة، وحتى نظرة ابنها عمر البريئة حملت تساؤلات لم تجد إجابة شافية في عين أمه المكسورة، "عمر لما رآني خاف.. حس أن أمه تغيرت".

زوجها، الذي كان يشاركها أحلامها ويساندها في تحقيق طموحاتها، وجد نفسه أمام مسؤولية مضاعفة وتحديات لم يتوقعها، "زوجي حاول.. لكنه انهار أمام هذا الوضع الجديد".

تعليقات بعض الناس كانت قاسية وجارحة، تتجاهل السبب الحقيقي وراء المأساة وتلقي باللوم على الضحية، “قالوا: 'لماذا خرجت وحدها؟' لكن لم يسأل أحد: ”لماذا نعيش فوق لغم؟".

%70 من الضحايا أطفال ونساء

قصة دعاء ليست مجرد حكاية فردية معزولة، بل هي صرخة صامتة باسم آلاف اليمنيين الذين يعيشون تحت تهديد الألغام الأرضية، القاتل الصامت الذي يتربص بحياة الأبرياء في كل مكان، فكما يشير فارس الحميري المدير التنفيذي للمرصد اليمني للألغام في تصريحه لـ"جسور بوست"، فإن 70 بالمئة من ضحايا الألغام هم من الأطفال والنساء، ما يؤكد أن زراعة هذه الألغام لم تكن لأغراض عسكرية بحتة، بل تستهدف حياة المدنيين بشكل مباشر.

ويقول: كثير من حوادث انفجارات الألغام التي تمكنا من تسجيلها وتوثيقها، وقعت في منازل نازحين عائدين من مخيمات النزوح، وفي مناطق تعد مصادر لجلب مياه الشرب، وفي الطرقات والمباني الخدمية والمناطق الزراعية، وفي مناطق رعي الماشية، حيث ينشط في العمل بهذه المهنة النساء والأطفال في الريف اليمني. 

ونشر الحوثيون أيضا عبوات ناسفة مموهة وتفننوا في صنعها، بعضها على شكل لعبة أطفال محشوة بالمتفجرات وأخرى على شكل أحجار أو علب طعام فارغة وغيرها من الحِيل الخبيثة والتي تستهدف حياة الأطفال والنساء بشكل مباشر.

ويتابع: التقديرات تشير إلى أن اليمن حاليا واحد من أكثر البلدان في منطقة الشرق الأوسط وربما العالم، يعاني من الألغام والعبوات والأجسام الحربية، نتيجة النزاع الدموي المستمر منذ أكثر من عقد من الزمن، وهناك جهود كبيرة تبذل من قبل الفرق الهندسية العاملة في مجال التطهير والنزع، وخاصة من قبل البرنامج الإنساني السعودي (مسام) لكن استمرار الحرب وعدم الاستقرار في اليمن وكذا استمرار الحوثيين في عملية زراعة المزيد من الألغام يعني أن حياة المدنيين وعلى وجه الخصوص الأطفال والنساء لا تزال تهددها مخاطر الألغام".

خريطة الموت في اليمن

ويكشف الحميري عن خريطة توزيع تلك الألغام في المناطق والمحافظات اليمنية قائلاً: تتصدر المناطق الساحلية المشهد بدءًا من مديرية الدريهمي وامتدادًا على طول الساحل الجنوبي لمحافظة الحديدة وصولًا إلى منطقة باب المندب المطلة على البحر الأحمر غربي البلاد.

وتشمل البؤر الساخنة الأخرى المناطق المحيطة بمدينة تعز والمناطق الريفية الغربية التابعة للمحافظة ذاتها، بالإضافة إلى بعض مديريات محافظة البيضاء، والمناطق الواقعة على الأطراف الشمالية والغربية لمحافظة الضالع. 

وتمتد رقعة التلوث لتشمل مديريتي عسيلان وبيحان في محافظة شبوة، وكل المديريات الجنوبية لمحافظة مأرب، ومديرية نهم في محافظة صنعاء، ومديرية خب والشعف في محافظة الجوف، فضلًا عن مديريات ميدي وحرض وعبس في محافظة حجة شمال غربي اليمن.

وتشير هذه الخريطة إلى حجم التحديات الإنسانية والأمنية التي تواجه اليمن جراء الانتشار الواسع للألغام، ما يعيق جهود الإغاثة والتنمية ويعرض حياة المدنيين لخطر دائم.

وتؤكد منظمة الأمم المتحدة للطفولة (اليونيسف) في تقاريرها المتعددة على أن الأطفال في اليمن يدفعون الثمن الأكبر لهذا النزاع، حيث يتعرضون للقتل والتشويه والإصابة بالإعاقات الدائمة بسبب الألغام ومخلفات الحرب، ففي تقرير صدر عام 2024، أشارت اليونيسف إلى أن الألغام والذخائر غير المنفجرة تسببت في مقتل وإصابة المئات من الأطفال في السنوات الأخيرة، ما يهدد مستقبل جيل بأكمله.

ووثقت العديد من المنظمات الحقوقية، مثل منظمة العفو الدولية وهيومن رايتس ووتش، استخدام أطراف النزاع في اليمن الألغام الأرضية المحظورة دوليًا، ودعت إلى وقف فوري لهذه الممارسات العشوائية التي تهدد حياة المدنيين. 

وأكدت هذه المنظمات في تقاريرها أن زراعة الألغام في المناطق السكنية والطرق الزراعية ومصادر المياه تعد انتهاكًا صارخًا للقانون الدولي الإنساني.

تقرير آخر صادر عن شبكة Global Voices في أبريل 2023، أكد أن النساء في منطقة الشرق الأوسط، بما في ذلك اليمن، يتحملن أعباء مضاعفة بسبب الألغام، حيث يصبحن مقدمات رعاية لأفراد الأسرة المصابين والمعيلات الرئيسيات في حال فقدان الرجال. 

"فقدت رجلي وأنا أبحث عن رزقي".. بهذه الكلمات القليلة، تختزل دعاء مأساة شعب بأكمله، فاللغم لم يبتر ساقها فحسب، بل بتر جزءًا من مستقبلها وحريتها، وحول حلمها البسيط في أن تكون معلمة إلى كابوس يلاحقها في كل لحظة. 

تقول دعاء، "اللغم شلّ راحتي، ووضعني في زاوية مليئة بالأسئلة"، لكن رغم الألم والصدمة، ما زالت روح دعاء صامدة، تتنفس وتعيش، شاهدة على وجع لا يمكن تصوره، وتضيف قائلة: "خطوة واحدة قلبت كل شيء.. لكنها لم تكن غلطتي".

 



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية